وضع داكن
21-11-2024
Logo
الخلفاء الراشدين : سيدنا عمر بن الخطاب 4 - تقشفه وحرصه على سلوك ولاته
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين, اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم, اللهم علمنا ما ينفعنا, وانفعنا بما علمتنا, وزدنا علماً, وأرنا الحق حقاً, وارزقنا اتباعه, وأرنا الباطل باطلاً, وارزقنا اجتنابه, واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه, وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .

لغز لا يحله إلا الإيمان بالله :

 أيها الأخوة الكرام, ليس غريباً أن أقـول لكم: إننا أمام وقائع كالأساطير، ولكنها وقعت ، الأساطير قصص لا يمكن أن تقع، وإن دلت هذه الأخبار على شيء فإنما تدل على أثر الإيمان الصحيح في نفس الإنسان، فالإنسان إذا آمن أيها الأخوة ففي اللحظة التي يستقر فيها الإيمان في قلبه, يعبِّر عن ذاته بذاته بحركة نحو خدمة الخلق، ونحو اتصاله بالحق، الإيمان حركة، الإيمان عمل، الإيمان مثل، الإيمان قِيَم، فهذا سيدنا عمر عملاق الإسلام له أخبار ربما لا تصدق، ولكنها وقعت، إنها ثمرة مِن ثمار إيمانه .
 وهو على فراش الموت حينما طعن من قبل من طعنه أوصى أصحابه, وقال: " يا علي إذا ولِّيت من أمور الناس شيئاً فأعيذك بالله أن تحمل بني هاشم على رقاب الناس، ويا عثمان إذا وليت من أمور الناس شيئاً فأعيذك بالله أن تحمل بني أبي معيط على رقاب الناس، ويا سعد إذا وليت من أمور الناس شيئاً فأعيذك بالله أن تحمل أقاربك على رقاب الناس " .
 وكان هذا الخليفة العظيم حينما يخاطب عماله, يقول لأحدهم: " لا تغلق بابك دونهم فيأكل قويهم ضعيفهم " .

ما يطمح إليه الخليفة الراشد :

 كان من طموحات هذا الخليفة, أنه قال مرة: " لئن عشت إن شاء الله تعالى لأسيرن في الرعية حَوْلاً, فإني أعلم أن للناس حوائج تقطع دوني", أي لا تصلني, " إما أنّ ولاتهم لا يرفعونها إلي، وإما أنهم لا يصلون إلي ", أي أن هناك سبب إما من الوالي أو من الرعية، " أسير إلى الشام فأقيم فيها شهرين, وبالجزيرة شهرين, وبمصر شهرين وبالبحرين شهرين, وبالكوفة شهرين, وبالبصرة شهرين, والله لنعمَ الحوْلُ هذا " .
 فقد كان يتمنى أن يقوم بجولةٍ تفقدية يطّلع فيها بنفسه على مشكلات الناس وحاجاتهم وأحوالهم .

 

هموم الخليفة الراشد :

 مرة سأل أصحابه, قال: " أرأيتم إن استعملّت عليكم خير من أعلم, ثم أمرته بالعدل أيبرئ ذلك ذمتي أمام الله؟ " إذا كان سيدنا عمر اختار أصلح إنسان لولاية ما، وأمره بالعدل, يا ترى هل انتهت مسؤوليته؟ " فيقول أصحابه: نعم, استعملت عليهم خيرهم، وأورعهم، وأعلمهم، وأفضلهم، وأمرتهم بالعدل والإنصاف والإحسان، فماذا بقي عليك؟ يقول: كلا, لم تنتهِ مهمتي حتى أنظر في عمله، أعمل بما أمرته أم لا ؟ ثم يقول: أيما عامل لي ظلم أحداً، وبلغتني مظلمته فلم أغيِّرها, فأنا ظلمت " عدَّ نفسه ظالماً إذا بلغته مظلمة أحد عماله, ولم يغيِّر هذه المظلمة .
 ويقول لأحد ولاته: " إن نصيحتي لك, وأنت عندي جالس كنصيحتي لما هو بأقصى ثغر من ثغور المسلمين, وذلك لما طوَّقني الله من أمرهم، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " مَن مات غاشاً لرعيته لم يُرح رائحة الجنة " .

( ورد في الأثر)

 فقد رأى هذا الخليفة هذه الولاية عبئاً كبيراً يثقل ظهره، لذلك كثيراً ما كان يقول: " ليت أم عمر لم تلد عمر، ليتها كانت عقيما " .
 وكثيراً ما كان يقول: " أتمنى أن ألقى الله عزَّ وجل لا لي ولا علي" أي رأساً برأس .

توفيق عمر للحق :

 كان هذا الخليفة الراشد يقتدي برسول الله صلى الله عليه وسلم اقتداء دقيقاً، فالنبي عليه الصلاة والسلام, قال:

" إنا والله لا نولي هذا الأمر أحداً يسأله أو يحرص عليه ".

( ورد في الأثر)

 وذات يوم أسَرَّ هذا الخليفة في نفسه أن يختار أحد أصحابه ليجعله والياً على أحد الأقاليم ، وهذا الصحابي لو صبر بضع ساعات لاستدعاه عمر ليقلده المنصب الذي رشحه له، ولكن هذا الصحابي بادر الأمور قبل أن تقع, وذهب إلى أمير المؤمنين يسأله أن يوليه الإمارة، وهو نفسه الذي وقع عليه اختيار عمر، ويبتسم عمر لحكمة المقادير, ويفكِّر قليلاً ثم يقول لصاحبه: " قد كنا أردناك لذلك، ولكن من يطلب هذا الأمر لا يعان عليه، ولا يجاب إليه، ثم صرفه وولَّى" .

 

كيف نوفق بين طلب سيدنا يوسف للولاية في الآية وبين نهي النبي لمن يريدها:

 الحقيقة أنّ لدينا نقطة دقيقة, وهي أن سيدنا يوسف عليه الصلاة والسلام طلب الولاية، ألم يقل للملِك:

﴿قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ﴾

( سورة يوسف الآية : 55 )

 فكيف نوفِّق بين توجيه النبي عليه الصلاة والسلام:

" إنا والله لا نولي هذا الأمر أحداً يسأله أو يحرص عليه "

( ورد في الأثر)

 وبين قول الله عزَّ وجل:

 

﴿قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ﴾

( سورة يوسف الآية : 55 )

 هناك توجيهان يمكن من خلالهما أن نوفِّق بين الآية الكريمة, وبين قول النبي عليه الصلاة والسلام، فحينما طلب سيدنا يوسف من الملِك أن يتولى أمر خزانة مصر، وأمر تموينها، كانت الإمارة في ضائقة, وفي مجاعة كبيرة، وكان المنصب وقتها مغرماً لا مغنماً .
 تصور في البلاد أزمة كبيرة جداً، انهيار اقتصادي، وإنسان يقول: أنا أصلح الاقتصاد، هذا ليس طمعاً في مكاسب، بل هذا المنصب تضحيةٌ ومغامرةٌ بسمعته من أجل إنقاذ البلد من ورطةٍ محققة، هذا بعض فهْم المسألة .
 يوجد توجيه آخر, الملك حينما أجابه إلى دعوته وأطلق يده, فهذا مقبول، إذا أطلقت يدك في حقل من الحقول، وأنــت مؤمن واثق من استقامتك، وعلمك، وخبرتك، وورعك, وإخلاصك ، وولائك للمصلحة العامة، فإذا طلبت هذا الأمر من أجل أن تحقق إنجازاً كبيراً, فهذا الشيء أيضاً مقبول .

المبدأ الذي اعتمد عليه عمر في اختيار الولاة تمثلاً بالنبي العدنان :

 مرةً يقول لأحد ولاته: " لم أستعملك على دماء المسلمين، ولا على أعراضهم، ولكني استعملتك لتقيم فيهم الصلاة، وتقسم بينهم، وتحكم فيهم بالعدل، ثم يعدُّ له عداً النواهي التي عليه أن يتجنبها، لا تركب دابةً مطهمةً، ولا تلبس ثوباً رقيقاً، ولا تأكل طعاماً رافهاً، ولا تغلق بابك دون حوائج الناس " هذه كانت توجيهاته للولاة .
 مرةً قال لأخوانه: " دلوني على رجلٍ أَكِل إليه أمراً يهمني, فقالوا: فلان, فقال: ليس لنا فيه حاجة, قالوا: فمن تريد إذاً؟ قال: أريد رجلاً إذا كان في القوم وليس أميراً لهم بدا وكأنه أميرهم " من شدة حرصه ورحمته، من شدة انتمائه لهم، من شدة غيرته عليهم .
 ألم يفعل هذا سيدنا خالد في بعض المعارك حينما أمَّر نفسه في معركة اليرموك، وهو ليس أميراً، لكن وجد من المصلحة العامة أن يؤمِّر نفسه حتى ينقذ الموقف, هذا مقياس الخليفة العظيم في اختيار الولاة .

هذا هو رسول الله عليه الصلاة والسلام بين أصحابه :

" سيدنا النبي عليه الصلاة والسلام لما كان مع أصحابه في سفر, وأرادوا أن يعالجوا شاةً لمأكلة, قال بعضهم: علي ذبحها، وقال آخر: علي سلخها، وقال الثالث: علي طبخها، فقال عليه الصلاة والسلام: وعلي جمع الحطب، فلما قيل له: يا نبي الله نكفيك ذلك, قال: أعرف ذلك، ولكن الله يكره أن يرى عبده متميزاً على أقرانه " .

( ورد في الأثر)

 فَسُرَّ الصحابة لأنهم سمعوا هذه التوجيهات من نبيهم فطبّقوها بحذافيرها، وكم من إنسان يروي هذه القصة، وبينه وبين مَن معه بون شاسع, هو في برجٍ, وهم في الحضيض؟ فالعبرة لا بتلاوة وقائع السيرة بل العبرة بتمثُّل هذه السيرة والعمل بها .
 ومرةً قال النبي لأصحابه حينما قالوا: " أنت سيدنا, وابن سيدنا " فنهاهم النبي عليه الصلاة والسلام, وقال:

" لا يستغوينَّكم الشيطان " .

( ورد في الأثر)

 وكان يقول:

" لا تقوموا لي كما يقوم الأعاجم لملوكهم يعظِّم بعضهم بعضا " .

( ورد في الأثر)

 فكان النبي أبعـد الناس عن مظاهر التعظيم، لأنه عبدٌ لله عزَّ وجل، والإنسان كلما تواضع ازداد في عين الناس رفعةً، وكلما استعلى عليهم ازداد في عينهم ضعة .

انظر إلى الموقف المتشابه بين النبي وموقف عمر من القصاص , ماذا تستنتج ؟

 مرة في موسم الحج, قال عمر على ملأ من الأعداد الهائلة من حجاج المسلمين: " أيها الناس, إني والله لا أبعث عمالي إليكم ليضربوا أبشاركم، ولا ليأخذوا أموالكم، ولكن أبعثهم إليكم ليعلِّموكم دينكم وسنة نبيكم، فمن فعل به فليرفعه إلي؟ فو الذي نفسي بيده لأمكننه من القصاص " ، يخاطب جموع الناس في الحج .
 سيدنا عمرو بن العاص كان والياً على مصر، وقد سمع هذه المقالة بأذنه، فقال: " يا أمير المؤمنين, أرأيت إن كان رجلٌ من المسلمين والياً على رعية، فأدب بعضهم، أتقتص منه؟ فقال عمر: والذي نفسي بيده لأفعلن، فقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقتص من نفسه، ألم يقل قبل أن يتوفاه الله:

" من كنت جلدت له ظهراً فهذا ظهري فليقتدْ منه، من كنت أخذت له مالاً فهذا مالي فليأخذْ منه، مَن كنت شتمت له عرضاً فهذا عرضي "

( ورد في الأثر)

 

 

إذًا: وافقَ النبي عليه الصلاة والسلام أن يقتص منه، فَمَن نحن إذا أبينا أن يوقع فينا القصاص؟.

اهتمام عمر الشديد بأمر الولاة :

 مرة سأل وفداً زاره من حمص عن واليهم عبد الله بن قرط، فيقولون: " هو خيرٌ يا أمير المؤمنين، لولا أنه بنى لنفسه داراً فارهة، سيدنا عمر, قال: داراً فارهة يتشامخ بها على الناس، بخٍ بخٍ لابن قرط، ثم يوفد إليه رسولاً, ويقول: ابدأ بالدار فاحرق بابها، ثم ائت به إلي، ويأتي هذا الرجل الوالي، ولا يكاد أن يقبل على أمير المؤمنين حتى يأمره أن يخلع حُلَّته ( ثيابه ) ويلبس مكانها لباس الرعاة, ويقول له: هذا خيرٌ مما كان يلبس أبوك، ثم يتناول عصى، ويقول له: هذه خيرٌ من العصا التي كان أبوك يهشُّ بها على غنمه، ثم يشير إلى الإبل, ويقول له : اتبعها وارعها يا عبد الله، ثم بعد حينٍ يستدعيه، ويقول له معاتباً: هل أرسلتك لتشيد وتبني؟ ارجعْ إلى عملك، ولا تعد لما فعلت أبداً " .
 فما أراد من الولاة أن يكون لهم مظهر، مرةً قال لواحد منهم: " بلغني أنه قد فشت لك فاشية ", أصبحت لك هيئةٌ في ملبسك ومسكنك ومطعمك ومركبك ليست لعامة المسلمين, " احذر يا عبد الله, أن تكون كالدابة مرت بواد خصب، فجعلت همها في السمن, وفي السمن حتفها ".

 

من الشكاوي التي رفعت إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب :

1- شكوى من شخص مصري :

 محمد بن سلمة يدخل على سيدنا عمر, ورفع له أمرًا أنّ ابن سيدنا عمرو بن العاص ضرب رجلاً في مصر لأنه سبقه، قال: أرسل أمير المؤمنين يدعو عمرو بن العاص وابنه محمداً ، وَلْنَدَعْ أنس بن مالك يروي لنا النبأ كما شهده، ورآه بعينيه، قال: " فو الله إنا لجلوس عند عمر وإذا عمرو بن العاص يقبل في إزار ورداء، فجعل عمر يتلفت باحثاً عن ابنه محمد، فإذا هو خلف أبيه ، فقال سيدنا عمر: أين المصري؟ فقال المصري: ها أنا ذا يا أمير المؤمنين، قال عمر: خذ الدُرة واضرب بها ابن الأكرمين، فضربه حتى أثخنه, قال: ونحن نشتهي أن نضربه ( الصحابة )، فلم ينزع حتى أحببنا أن ينزع من كثرة ما ضربه، وعمر يقول : اضرب اضرب ابن الأكرمين، ثم أشار عمر إلى العصا, وقال: أجلها على صلعة عمرو، فوالله ما ضربك إلا بفضل سلطانه، لو لم يكن ابنه لما ضربك، فقال الرجل: يا أمير المؤمنين قد استوفيت واشتفيت وضربت من ضربني، قال عمر: أما والله لو ضربته ما حُلنا بينك وبينه حتى تكون أنت الذي تدعه، ثم التفت إلى عمرو، وقال: يا عمرو متى استعبَدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً ".
 متى ظهرت حقوق الإنسان؟ في أعقاب الثورة الفرنسية، كانت أوروبا في غياهب الجهل والظلم، وقبل ألف وخمسمئة عام, يقول هذا الخليفة العظيم: " متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً ".
 وهذا فعله سيدنا عمر مع ابنِه، حينما رأى إبلاً سمينة، قال: " لمن هذه؟ قالوا: هي لابنك عبد الله، قال: ائتوني به، فلما جيء به, قال: لمن هذه الإبل ؟ قال: هي إبلي، اشتريتها بمالي وبعثت بها إلى المرعى لتسمن, فماذا صنعت؟ قال: ويقول الناس ارعوا هذه الإبل، فهي لابن أمير المؤمنين، اسقوا هذه الإبل فهي لابن أمير المؤمنين، وهكذا تسمن إبلك يا ابن أمير المؤمنين, لماذا سمنت؟ لأنك ابني, قال له: بِع هذه الإبل, وخذ رأس مالك, ورد الباقي لبيت مال المسلمين ".

2 - شكوى من أهالي حمص :

 مرة تلقى شكوى ضد والٍ من ولاته، اسمه سعيد بن عامر الجُمَحي، استدعاه عمر، وواجهه بالشاكين، وقال لهم: تكلموا، قالوا: لا يخرج إلينا حتى يرتفع النهار، فقال الوالي: والله يا أمير المؤمنين, إني كنت أكره أن أذكر السبب، ليس لأهلي خادم فأنا أعجن لهم عجينهم، ثم أجلس حتى يختمر، ثم أخبزه لهم، ثم أتوضأ وأخرج إليهم، فأشرقت ملامح عمر، قال: السؤال الثاني، قالوا: لا يجيب أحداً بليل، قال: والله إني كنت أكره ذكر ذلك، إني جعلت النهار لهم، والليل لي، فقال: اسألوه السؤال الثالث، قال: إن له في الشهر يوماً لا يقابل فيه أحداً، قال سعيد: ليس لي خادم يغسل ثيابي، ففي هذا اليوم أغسلها، وأنتظرها حتى تجف، ثم أخرج إليهم آخر النهار " ، سيدنا عمر ملأ قلبه السرور والغبطة، بأن هذا الوالي على شاكلته، وقد أعطى الأجوبة الكافية .
 ألم يقل سيدنا عمر لرسول عامله على أذربيجان حين سأله: ألا تنام الليل؟ قال: إني لو نمت ليلي كله أضعت نفسي أمام ربي ، وإن نمت نهاري أضعت رعيتي " .

كتاباً من عمر إلى والي حمص أيضاً :

 مرة أرسل سيدنا عمر والياً على حمص اسمه عمير بن سعد، مكث هناك عاماً، وما أرسل له خراج حمص، ولا تصل منه أنباء .
 فقال عمر لكاتبه: " اكتب إلى عمير فإني أخاف أن يكون قد خاننا، وأرسل إليه يستدعيه
 قالوا: ذات يومٍ شهدت شوارع المدينة رجلاً أشعث أغبر، تغشاه وعثاء السفر، يكاد يقتلع قدميه من الأرض اقتلاعاً من طول ما لاقى من عناء وبذل من جهد، على كتفه اليمنى جرابٌ وقصعة، وعلى كتفه اليسرى قُربةٌ صغيرةٌ فيها ماء، وإنه ليتوكأ على عصى ولا يؤودها حمله الضامر الوهنان, دخل على أمير المؤمنين عمر بن الخطاب, فدهش الفاروق من حالته, وقال: ما شأنك يا عمير؟
 قال: شأني ما ترى، ألست تراني صحيح البدن، طاهر الدم، معي الدنيا أجرها بقرنيها؟
 قال عمر: وما معك؟ قال: معي جرابي، أحمل فيه زادي، وقصعتي آكل فيها، ومعي قربة لوضوئي وشرابي، وعصاي أتوكأ عليها، وأجاهد بها عدواً إن عرض، فوالله ما الدنيا إلا تبعٌ لمتاعي؟
 قال عمر: أجئت ماشياً؟
 قال : نعم .
 قال: أولم تجد من يتبرع لك بدابةٍ تركبها؟
 قال: لا، إنهم لم يفعلوا، وأنا لم أسألهم .
 قال: فماذا عملت فيما عهدنا إليك به؟
 قال: أتيت البلد الذي بعثتني إليه، فجمعت صلحاء أهله، ووليتهم جمع فيئهم وأموالهم، حتى إذا جمعوها وضعتُها في مواضعها، ولو بقي لك منها شيءٌ لأتيتك به .
 قال عمر لكاتبه: جدد عهداً لعمير .
 قال له: هيهات، تلك أيامٌ خلت، لا عملت لك ولا لأحد بعدك أبداً " كفاني ذلك، رجل في أعلى درجة من النزاهة، سيدنا عمر كان على حق، مضت سنة، ولم يأت منه أخبار، ما شأنه؟ وماذا جرى له ؟ .

 

انظر إلى تقشفه رضي الله عنه :

 سيدنا عمر مرة حج، قال عبد الله بن عامر بن ربيعة: " صحبت عمر بن الخطاب من المدينة إلى مكة في الحج، ثم رجعنا، فما ضُرِبَ لنا فسطاط ولا خباء ولا كان له بناءٌ يستظل به, إنما يلقي كساء على شجرةٍ فيستظل تحتها ".
ويقول بشار بن نمير: " وسألني عمر, كم أنفقنا في حجتنا هذه؟
 قلت: خمسة عشر ديناراً .
 قال: لقد أسرفنا في هذا المال، وسيدنا عمر تحت يديه كنوز كسرى وقيصر، ومعه أموال طائلة .

أبلغي من أبلغك هذا الكلام :

 يبدو من شدة تقشفه, وخشونة طعامه, أنّ أصحابه الخُلَّص تمنوا أن يمتع نفسه قليلاً، فاجتمعوا، وتداولوا، واتفقوا على أن يلتمسوا عنده أن يرفع راتبه قليلاً، لأنه رفع رواتب كل من حوله إلا هو .
 سيدنا عثمان رأى أن تُدفَع ابنته حفصة إلى أن تُلقِي عليه هذا الرجاء، واستكتموها أمرهم، وطلبوا إليها أن تستطلع أمر أبيها، ذهبت حفصة إلى عمر متهيبة، وأخذت تسوق الحديث بحذر ورفق, قال عمر: من بعثك إلي بهذا؟
قالت: لا أحد .
 قال: بل بعثك بهذا قومٌ لو عرفتهم لحاسبتهم .
 قال لابنته: لقد كنتِ زوجةً لرسول الله عليه الصلاة والسلام، فماذا كان يقتني في بيته من الملبس؟
 قالت: ثوبين اثنين .
 قال: فما أطيب طعمة رأيته يأكلها؟
 قالت: خبز شعير طري مسرود بالسمن .
 قال: فما أوطأ فِراش كان له في بيتكِ؟
 قالت: كساء ثخين نبسطه في الصيف، فإذا كان الشتاء بسطنا نصفه، وتدثرنا بنصفه الثاني .
 قال: يا حفصة, فأبلغي الذين أرسلوكِ إلي أن مَثَلي ومثل صاحبي, الرسول وأبي بكر كثلاثة سلكوا طريقاً، فمضى الأول، وقد تزوَّد وبلغ المنزل، ثم اتبعـه الآخر, فسلك طريقه فأفضى إليه، ثم الثالث، فإن لزم طريقهما ورضي بزادهما أُلْحِق بهما، وإن سلك غير طريقهما لم يجتمع بها, فأبلغي من أبلغك هذا الكلام .
 شيء بالفعل لا يصدق، قلت لكم في البداية: إننا أمام أحداث ووقائع وأخبار كالأساطير، لكنها وقعت، وإن دلت على شيء فإنما تدل على أثر الإيمان في نفس المؤمن، نزاهةٌ ما بعدها نزاهة، عدلٌ ما بعده عدل، حرصٌ على الرعية ما بعده حرص .

 

من مشكلات عمر التي عرضت عليه خلال خلافته, المال الفائض, أين يضعه ؟

 

 

 

إن وفدًا جاؤوا سيدنا عمر من البصرة, فأول سؤال سألهم: كيف الأسعار عندكم؟ وكيف الأمطار عندكم؟ يسأل من رحمته على رعيته .
 أحد الولاة حمـل إليه مرة مالاً وفيراً من أحد الأقاليم، فسأل عن مصدره, وعن سر وفرته وكثرته، فلما علم أنه من الزكاة التي يدفعها المسلمون، ومن الجزية التي يدفعها أهل الكتاب
 قال: إني لأظنكم قد أهلكتم الناس .
 فقالوا: لا والله ما أخذنا إلا صفواً عفواً, يعني بشكل طبيعي .
 قال: بلا سوط .
 قالوا: نعم .
 عندئذٍ سُر، فقال: الحمد لله الذي لم يجعل ذلك عليّ، ولا في سلطاني ", أيضاً الوفرة والكثرة حارَ فيها .

صفوة القول عن هذا الخليفة الراشد عمر بن الخطاب :

 أذكركم بالخطبة التي ألقاها حينما تولى الإمارة, قال: " أيها الناس, خمس خصال خذوني بهن: لكم علي ألاّ آخذ من أموالكم شيئاً إلا بحقه، ولكم عليَّ ألا أنفقه إلا بحقه، ولكم عليَّ أن أزيد عطاياكم إن شاء الله تعالى، وإذا غبتم في البعوث فأنا أبو العيال حتى ترجعوا " .
 هكذا أخذ عمر نفسه بهذه القواعد، وأعلنها للناس صريحة, وقال: خذوني بها وحاسبوني عليها .
 هذا إنسان يخاف الله عز وجل، طبعاً كل عصر له ظروفه، لكن الإنسان إذا اتقى الله عزَّ وجل يرى نفسه مندفعاً بشكلٍ عجيب إلى ورعٍ ما بعده ورع، وخوفٍ من الله ما بعده خوف، وحرصٍ على المصلحة العامة ما بعده حرص، والله سبحانه وتعالى نرجوه أن يلهمنا الخير، وفي درس قادم نتابع الحديث عن هذا الصحابي الجليل .

الاستماع للدرس

00:00/00:00

نص الزوار

إخفاء الصور